في وقت يرزح فيه العمل النقابي في الجزائر تحت ضغط غير مسبوق، جاء البيان التضامني الصادر عن فدرالية نقابات SUD-Rail الفرنسية ليعيد طرح أسئلة جوهرية حول واقع الحركة النقابية، ليس فقط من زاوية القمع السلطوي، بل أيضًا من زاوية الصمت والتواطؤ داخل النقابة الرسمية (الإتحاد العام للعمال الجزائريين) نفسها.

وتُعدّ SUD-Rail إحدى الفدراليات النقابية المنضوية ضمن اتحاد Solidaires  الفرنسي، وتضم نقابات عمال السكك الحديدية والنقل، وهي معروفة بمواقفها الصريحة في الدفاع عن الحريات النقابية، وبانخراطها الفعلي في شبكات التضامن النقابي الدولي، لا سيما دعمها للنقابات المستقلة في السياقات القمعية.

البيان، الذي أعلن تضامنه الصريح مع عمال ونقابيي السكك الحديدية في الجزائر، سلّط الضوء على توقيف واعتقال أكثر من عشرة قياديين نقابيين في الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية  (SNTF)، وعلى رأسهم محمد جبراني، الأمين العام لفدرالية عمال السكك الحديدية.

وجاءت هذه الاعتقالات حسب البيان عقب تحرك مهني محدود ومشروع، هدفه الوحيد الدفاع عن مطالب مهنية أساسية، ليُقابل بالقمع والتجريم واتهامات جاهزة تمسّ بـ  “أمن الدولة”

إضغط هنا لقراءة البيان من المصدر باللغة الفرنسية

الفضيحة الحقيقية هي صمت الاتحاد العام للعمال الجزائريين

غير أن الفضيحة الأكبر، والأكثر خطورة، لا تكمن فقط في القمع الذي تمارسه السلطة ضد نقابيي الإتحاد العام للعمال الجزائريين، بل في الصمت المطبق للاتحاد العام للعمال الجزائريين (UGTA).

هذا الاتحاد، الذي يُفترض أن يكون الإطار الطبيعي للدفاع عن مناضليه، لم يصدر بيانًا، لم ينشر توضيحًا، ولم يكلف نفسه حتى بمنشور بسيط على صفحته في فيسبوك لإبلاغ الرأي العام بأن قياداته النقابية تقبع في السجون.

فكيف يمكن لاتحاد يدّعي تمثيل العمال أن يلتزم الصمت في حين يُزجّ بأمين عام فدرالية مركزية في السجن؟ وأي مصداقية تبقى لتنظيم نقابي يتخلى عن مناضليه في لحظة المحنة؟

عمر تاقجوت أصبح عنوان للخنوع الكامل والتماهي مع السلطة

الأخطر من ذلك أن هذا الصمت لا يبدو عرضيًا، بل ينسجم تمامًا مع خط عمر تاقجوت، الأمين العام الحالي للاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي يواصل منذ توليه المنصب سياسة تثمين السلطة والتماهي مع خطابها، رغم أنها أفرغت العمل النقابي من محتواه ووجهت ضربات متتالية لما تبقى من حقوق وحريات نقابية.

في الوقت الذي يُسجن فيه نقابيون، وتُحل تنظيمات مستقلة، وتُجرَّم الممارسة النقابية باعتماد قوانين نقابية مجحفة، يختار الأمين العام للاتحاد الوقوف في صف السلطة، لا كوسيط اجتماعي، بل كواجهة تبريرية سياستها العرجاء.

عمر تاقجوت الأمين العام الحالي للإتحاد العام للعمال الجزائريين

لماذا تاقجوت أخطر من سابقه عبد المجيد سيدي السعيد؟

كثيرون اعتبروا أن مرحلة عبد المجيد سيدي السعيد كانت عنوانًا للمداهنة والتواطؤ مع الحكومة، وهو توصيف صحيح، لكن الواقع يفرض اليوم قول الحقيقة الكاملة التي تؤكد بأن عمر تاقجوت أخطر من سلفه.

فرغم خضوع سيدي السعيد في السابق داخليًا مع نظام بوتفليقة، فقد كان يستثمر خارجيًا في الخطاب النقابي الجزائري، ويُستعمل – ولو شكليًا – للتقدّم باسم إفريقيا في المحافل الدولية، حيث طمح لتولي منصب الأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات وجند لذلك العشرات من النقابات المركزية الإفريقية وأحدث ضجة كبيرة سياسية داخل أكبر منظمة نقابية دولية.

أما اليوم، فنحن أمام قيادة تاقجوت جمعت بين الخنوع الداخلي والانكشاف الخارجي، قيادة بلا طموح نقابي دولي، ولا إرادة لقيادة القارة الإفريقية نحو قيادة الإتحاد الدولي للنقابات مثل سابقه بالرغم من الملايير من الدولارات التي تضخها لها الحكومة والتي تَضُخها هي بدورها للإتحاد الدولي للنقابات، حيث يقابل التملق للسلطة في الداخل خنوعٌ مماثل، إن لم يكن أشد، في الخارج.

الأمين العام السابق للإتحاد عبد المجيد سيدي السعيد

تضامن الخارج… وفضح الداخل

بيان SUD-Rail، ومعه تضامن شبكات نقابية دولية، لم يأتِ فقط لدعم نقابيي الجزائر، بل كشف – دون أن يسميه – عزلة الاتحاد الرسمي وفقدانه لوظيفته الأساسية، فحين يتكفل الخارج بفضح القمع، بينما يلوذ الداخل بالصمت، فإن الأمر لا يعود مجرد أزمة، بل وصمة عار تاريخية.

صمت الاتحاد العربي للنقابات والاتحاد الدولي للنقابات مشاركة في الجُرم

لا يمكن فصل ما يحدث اليوم من قمع للنقابيين في الجزائر عن الصمت المريب لكلٍّ من الاتحاد الدولي للنقابات (ITUC) والاتحاد العربي للنقابات، رغم علمهما المسبق بتفاصيل القضية وبسياقها السياسي والنقابي، فهذا الصمت لا يمكن اعتباره حيادًا، بل يرقى إلى مشاركة غير مباشرة في الجُرم، لا سيما حين يتعلق الأمر بانتهاكات جسيمة للحريات النقابية.

وتتجلى المفارقة الصادمة في أن النقابات المستقلة الجزائرية، المنخرطة هي الأخرى في هياكل الاتحاد الدولي للنقابات، تعاني منذ سنوات من تهميش ممنهج وغياب تام لأي تضامن فعلي، رغم ما تتعرض له من حلّ تعسفي، وتجريم للنشاط النقابي، واعتقال لقياداتها باتهامات بالإرهاب. ومع ذلك، ظلّ الاتحاد الدولي للنقابات صامتًا، بل إن أمينه العام قام بزيارة رسمية إلى الجزائر شهر فيفري الفارط، أثنى خلالها على الحكومة وعلى ما سماه “الحوار الاجتماعي”، في تصريحات استغلتها السلطات لاحقًا لتبرير القمع الداخلي وإضفاء شرعية زائفة على سياساتها.

والأكثر إثارة للاستغراب اليوم أن حتى نقابيي الاتحاد العام للعمال الجزائريين أنفسهم، الذين يتزعم اتحادهم التنظيمَ الجهوي للاتحاد الدولي، أي الاتحاد العربي للنقابات، لم يحظوا بأي تضامن يُذكر من هذا الأخير، رغم اعتقال قيادات بارزة منهم. وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول وظيفة الاتحاد العربي للنقابات وجدوى وجوده في المنطقة، خاصة في ظل الموارد المالية الضخمة التي يستفيد منها من عدة داعمين، دون أن تُترجم إلى حماية أو دعم حقيقيين للنقابيين عند الأزمات.

إن هذا الواقع يؤكد أن الحركة النقابية على المستوى العربي تعيش أزمة عميقة، أزمة بنيوية تتجاوز الأشخاص إلى المنظومات نفسها، وهو ما يفرض التفكير الجدي في بناء قوة نقابية موازية، مستقلة، وديمقراطية، حتى وإن انطلقت بموارد محدودة، لكنها تكون منسجمة مع تطلعات العمال في المنطقة، وقادرة على اتخاذ مواقف واضحة وحازمة عندما يُقمع العمل النقابي، لا سيما أمام منظمة العمل الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وغيرها من المؤسسات الدولية.

من هنا رابط نحو موقع الإتحاد العربي للنقابات

موقف الكنفدرالية النقابية للقوى المنتجة

في هذا السياق، أكد رئيس الكنفدرالية النقابية للقوى المنتجة (COSYFOP) في تصريح لموقع الكنفدرالية الرسمي أن:

“سجن النقابيين جريمة سياسية وانتهاك صارخ لالتزامات الجزائر الدولية، وصمت الاتحاد العام للعمال الجزائريين خيانة لدوره التاريخي ولمناضليه. اليوم، إعادة بناء حركة نقابية حرة ومستقلة لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية لعمل نقابي حقيقي داخل الجزائر”

وأضاف مصرحا :

“ومع كامل الشكر للنقابات الفرنسية على موقفها المشرف، فإن ما نراه في الداخل ليس موقفًا يُصنع، بل صمتًا مقرفًا وخنوعًا مفضوحًا.”

الصمت ليس حيادًا… بل تواطؤ

ما يحدث اليوم داخل الاتحاد العام للعمال الجزائريين ليس مجرد أزمة قيادة، بل انهيار لوظيفة نقابية تاريخية. حين يُسجن النقابيون ويُجرَّم الفعل النقابي، يصبح الصمت موقفًا سياسيًا كامل الأركان، لا يمكن تبريره بالحكمة ولا بالحسابات الظرفية.

إن التضامن القادم من الخارج لا يعفي الداخل من مسؤوليته، بل يفضحه، والتاريخ لا يرحم التنظيمات التي تخلت عن مناضليها في لحظة القمع، وحدها حركة نقابية حرة، مستقلة، وديمقراطية، قادرة على استعادة المعنى الحقيقي للعمل النقابي، وعلى وضع حدّ لهذا المسار الذي حوّل الصمت إلى سياسة، والخنوع إلى خطّ رسمي.

مداخلة رئيس الكنفدرالية الأخ ملال رؤوف في سياق هاذا الموضوع على قناة شمال إفريقيا ابتداءا من الدقيقة 2.42

اقرأ المقال التالي لأكثر تفاصيل حول القضية

📬 هل أعجبك هذا المقال؟ اشترك في نشرتنا البريدية لتصلك آخر الأخبار والبيانات الهامة مباشرة إلى بريدك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Arabic