في الجزائر، لم يعد مستغربًا أن يُزجّ بنقابي في السجن لمجرّد إشعاره بالإضراب، لكن ما وقع للقيادي النقابي لونيس سعيدي يضعنا أمام مفارقة خطيرة وهي أن الرجل لم يكن منتميًا إلى نقابة مستقلة “غير معترف بها”، كما تتهمنا السلطة عادة، بل كان يشغل منصب الأمين العام للفيدرالية الوطنية لعمال السكك الحديدية، وهي نقابة تابعة للاتحاد العام للعمال الجزائريين (UGTA)، الموصوف رسميًا “بالشريك الاجتماعي”

في 25  جوان 2025، مارس سعيدي صلاحياته النقابية، ووجّه إشعارًا رسميًا بالإضراب إلى وزارة النقل، مطالبًا بتطبيق زيادات تم الاتفاق عليها منذ 2023، وتحسين ظروف العمل، ووقف تدخل الإدارة في الانتخابات المهنية، كان ذلك ضمن الإطار الدستوري والقانوني، لكن السلطات كان لها رأي آخر.

ففي 5  جويلية 2025، وهو كما يعلم الجميع تاريخ رمزي يتزامن مع عيد الاستقلال، أُوقف سعيدي وأُودع الحبس المؤقت، ثم أُدين بعدها في 17 جويلية 2025 بالسجن سنتين نافذتين، إضافة إلى غرامة مالية باهظة، بتهم تتعلق مباشرة بممارسته لنشاطه النقابي وحقه في الإضراب.

هذا الحكم الصادم رافقته خطوة أكثر فظاعة حيث مركزيته النقابية نفسها تخلّت عنه، بعدما ألغت إشعار الإضراب، ونزعت عنه صفته النقابية، وقدّمته للسلطات كـ”مسؤول متمرد”، لا كمناضل يدافع عن حقوق العمال، وانقلبت عليه نقابته “الشرعية” التي كان ينتمي إليها، لمجرد أنه تجرأ على تفعيل حق دستوري.

وهذا ما لا تفعله النقابات المستقلة “الغير شرعية حسب السلطة” فبالرغم من قلة الإمكانيات وشدة الضغوط، لم نتخلّ يومًا عن مناضلينا في وجه القمع، والفرق أضحى الآن واضح بين من يدافع عن قواعده بشرف، ومن يبيعها عند أول اختبار.

إن قضية لونيس سعيدي تفضح الطبيعة الزائفة لما يُسمّى “نقابات شرعية” في الجزائر، وتؤكد مجددًا أن الشرعية الممنوحة من السلطة ليست سوى أداة ضبط وترويض، بينما الشرعية الحقيقية تُبنى بالنضال والكفاح من أجل الاستقلالية، لا بالخضوع للأوامر أو التماهي مع خطاب السلطة.

ما حدث يُشكّل سابقة خطيرة فالنقابي سعيدي لم يُعتقل لأنه نظم مظاهرة في الشارع مثلما نقوم نحن أو انتقد الحكومة وسياساتها العرجاء، لقد إعتقل وحوكم وسجن لأنه أرسل إشعارًا بالإضراب عبر القنوات الرسمية، وإذا كانت هذه الخطوة كافية لسجنه، فماذا تبقّى من الحق في الإضراب والتنظيم النقابي ؟

السلطة الجزائرية تؤكد مرة أخرى أنها لا تفرّق بين نقابي “مشرعن” عبر قنواتها، وآخر مستقل ومناضل فالجميع تحت مقصلة الولاء والطاعة، ولمن كان يظن أن النقابة الرسمية تمنحه الحصانة، ها قد جاءت قضية سعيدي لتؤكد أن “الشرعية” الرسمية لا تحمي أحدًا، بل قد تكون الفخ الأول.

كما أن قانون النقابات الجديد (2023)، الذي نبّهنا مرارًا إلى طبيعته القمعية ومخالفته للمعايير الدولية، لم يُستخدم إلا لتضييق الحريات وتجريم الإضراب في القطاعات الحيوية، وقد استُعمل فعليًا كأداة قانونية لتجريم سعيدي.

حتى النفاق الإعلامي لعب دوره، فقضية لونيس سعيدي استقطبت تغطية إعلامية دولية واسعة، بينما قضية النقابي علي معمري لم تحظَ بنفس الاهتمام، رغم أنها لا تقل خطورة، وهذا يعكس واقعًا مريرًا فالإعلام الدولي، رغم انتقاداته للسلطة، لا يزال في أغلبه يتحرك داخل هوامش مرسومة، ولا ينصف النضال النقابي المستقل بالقدر الذي يستحقه.

إن قضية لونيس سعيدي، وقضية علي معمري المتهم بالإرهاب، ليستا ملفين فرديين، إنهما مرآة صادقة لوضع الحريات في الجزائر، واختبار سياسي وأخلاقي لكل من يدّعي الدفاع عن العدالة الاجتماعية وحرية التنظيم في هذا البلد.

صورة للنقابي المستقل المسجون والمتهم بالإرهاب علي معمري

📬 هل أعجبك هذا المقال؟ اشترك في نشرتنا البريدية لتصلك آخر الأخبار والبيانات الهامة مباشرة إلى بريدك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Arabic